الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومنع بعضهم اقتضاءه ذلك لجواز أن يراد به الغشي لحدوث أمر عظيم من أمور يوم القيامة غير النفخ، وقيل: هو من فروع النفخ للبعث وذلك أنه ينفخ فتبعث الخلائق فيتحققون ما يتحققون ويشاهدون ما يشاهدون فيفزعون فيغشى عليهم إلا ما شاء الله تعالى، وحديث الصحيحين مما لا يأبى ذلك واحتياج الإفاقة لنفخة أخرى في حيز المنع؛ وقيل: في بيان اتحاد نفخة البعث ونفخة الفزع أن المراد بالفزع الإجابة والإسراع للقيام لرب العالمين وقد صرحت الآيات بإسراع الناس عند البعث فقال تعالى: {وَنُفِخَ في الصور هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] وقال سبحانه: {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ولا يخفى بعده واحتياج توجيه الاستثناء بعد عليه إلى تكلف فالأولى أن يوجه الاتحاد بما سبق فتأمل، وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف أعني ينفخ مضارعًا للدلالة على تحقق الوقوع كما في قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النار} بعد قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود: 98] ووجه تأخير بيان الأحوال الواقعة في ابتداء هذه النفخة عن بيان ما يقع بعد من حشر المكذبين قد تقدم الكلام فيه فتذكر فما في العهد من قدم {إِلاَّ مَن شَاء الله} استثناء متصل كما هو الظاهر من من ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء الله تعالى أن لا يفزع، والمراد بذلك على ما قيل: من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم: {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} [النمل: 89] وتعقب بأن الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه: {فَفَزِعَ} الخ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق أي الموت في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وذوي ذلك عن مقاتل والسدي.وقال الضحاك: هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش.وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السموات والأرض لأن السموات في داخل الكرسي ونسبتها إليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي إلى العرش كهذه النسبة أيضًا فكيف يكون حملته في السموات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السموات ودون العرش على ما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «سقف الجنة عرش الرحمن» فما فيها من الولدان والحور والخزنة لا يصح استثناؤهم ممن في السموات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السموات لا يمكن أن يكون الاصطفاف حوله في السموات، وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالسموات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الأجرام العلوية فإنه الأليق بالمقام، وقد شاع استعمال من في السموات والأرض عند إرادة الإحاطة والشمول.وقيل: لا مانع من حمل السموات على السموات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذكورين منقطعًا ولا يخفى ما فيه، وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام، وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع الصعق يوم القيامة بعد النفخة الثانية، أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الأولى فلا، على أن عده عليه السلام ممن لا يصعق يوم القيامة بعد قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين السابق فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك.وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون وصححه القاضي أبو بكر بن العربي كما قال القرطبي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه هم الشهداء متقلد والسيوف حول العرش وكذا ذهب إليه الحليمي وقال: هو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال.وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير من شاء الله في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر.{وَكُلٌّ} أي كل واحد من الفازعين المبعوثين عند النفخة {أَتَوْهُ} أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلاله للسؤال والجواب والمناقشة والحساب، وقيل: أي رجعوا إلى أمره تعالى وانقادوا.وضمير الجمع باعتبار معنى {كُلٌّ} وقرأ قتادة أتاه فعلًا ماضيًا مسندًا لضمير {كُلٌّ} على لفظها.وقرأ أكثر السبعة آتوه اسم فاعل {داخرين} أي أذلاء، وقرأ الحسن والأعمش دخرين بغير ألف وهو على القراءتين نصب على الحال من ضمير {كُلٌّ} وقوله سبحانه: {وَتَرَى الجبال} عطف على {ينفخ} [النمل: 87] داخل في حكم التذكير؛ وترى من رؤية العين، وقوله تعالى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله، وجوز أن يكون بدلًا من سابقه، وقوله عز وجل.{وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} حال من ضمير الجبال في تحسبها، وجوز أن يكون حالًا من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحدة أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجور مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرًا حثيثًا، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش:
وقيل: شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيرًا وسطًا كما قال الأعشى: والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت، وقيل: إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] واختلف في وقت هذا، ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} [طه: 105 108]، وقوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم} [الكهف: 47] إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلًا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك. اهـ.وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبًا مهيلًا ثم هباءً منبثًا، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيبًا مَّهِيلًا} [المزمل: 14] والتعبير بالماضي في قوله تعالى: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم} [الكهف: 47] لتحقق الوقوع كما مر آنفًا واليوم في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] الآية، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} [إبراهيم: 48] الخ يجوز أن يجعل اسمًا للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ في الصور نَفْخَةٌ واحدة وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} [الحاقة: 13 15] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة: 18] وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما في صحيح مسلم عن عائشة قلت يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48] فأين يكون الناس؟ قال: «على الصراط» وجاء في غير خبر ما يدل على أنه قبل النفخة الأولى، وجمع صاحب الإفصاح بين الإخبار بأن التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الأولى وأخرى بعد النفخة الثانية، وحكي في البحر أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بإرسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سرابًا، وهذا كله على ما يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية، ومن تتبع الأخبار وجدها ظاهرة في ذلك، والآية هنا تحتمل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل {صُنْعَ الله} الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعالم فيه ما دلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل: صنع الله تعالى ذلك صنعًا وهذا نحو له على ألف عرفًا ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء.وقال بعض المحققين: مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعًا قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادىء الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى: {الذى أَتْقَنَ كُلَّ شيء} أي أتقن خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة اه، وحسنه ظاهر.وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكدة محذوف وهو الناصب {ليوم ينفخ} [النمل: 87] والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب الله تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه: {صنع الله} يريد عز وجل به الإثابة والمعاقبة. إلى آخر ما قال، وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتدًا شاملًا لزمان النفختين وما بعدهما وجعل المصدر مؤكدًا لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي: {من جاء} [النمل: 89] {ومن جاء} [النمل: 90] وباستدعاء {يوم ينفخ} [النمل: 87] ناصبًا وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحًا بها لم يرد الحذف في شيء منها إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد إذ الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به، وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل أن الصنع المتقن لا يناسب تسيير الجبال ظاهرًا وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكدًا لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجىء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين.وقيل هو منصوب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله وهو كما ترى.واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على الله عز وجل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف.واستدل بعضهم على الجواز المذكور بالخبر الصحيح «إن الله صانع كل صانع وصنعته» وتعقب بأن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو: {أأنتم تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون} [الواقعة: 64] خلافًا للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذرًا في أرض أن يقول الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ، وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضًا ما في الخبر بالإضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله، ونحو هذا الاستدلال بخبر مسلم: «ليعزم في الدعاء فإن الله تعالى صانع ما شاء لا مكره له» فإن ما فيه من قبيل المضاف أو المقيد والأولى الاستدلال بما صح في حديث الطبراني والحاكم «اتقوا الله تعالى فإن الله تعالى فاتح لكم وصانع».ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لا يغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الإحرام: الله الأكبر.واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه: {أَتْقَنَ كُلَّ شيء} على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والإجماع مانع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلم فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالإجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضًا بمعنى أن الحكمة اقتضتها {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} جعله بعض المحققين تعليلًا لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعًا محكمًا له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أخيريتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل.
|